في أعماق التاريخ اليمني، حيث تتشابك خيوط البطولة مع معاني التضحية، وحيث تتردد أصداء القصائد كأنها أناشيد الحرية، يقف رجلٌ شامخٌ كجبال بلاده، متحدياً ظلم الطغاة، حاملاً راية الكرامة في وجه العواصف. إنه الثائر الذي لم يرضَ بالذل يوماً، ولم يُسلّم نفسه لقيود الاستبداد، بل اختار أن يكون صوتاً للأحرار، وقلباً نابضاً بالحلم الكبير.
طفولةٌ في أحضان الجبال
وُلِدَ هذا البطل في قلب مأرب، بين جبالها الراسخة وسهولها الممتدة، حيث تتعلم النفوس معنى العزة منذ نعومة أظفارها. لم تكن طفولته كسائر الأطفال، فقد كانت الطبيعة البدوية هي مدرسته الأولى، تعلم منها الصبر على الشدائد، والاعتزاز بالأرض التي أنبتته. وفي تلك البيئة القاسية، نما قلبه كالصقر الذي يحلق عالياً فوق القمم، يبحث عن الحرية ولا يرضى إلا بالسماء مفتوحة.
شاعرٌ ينسج المقاومة بالكلمات
لم يكن هذا الرجل مجرد قائد قبلي، بل كان شاعراً فذاً، يحمل في صدره قيثارة الثورة. كانت أبياته الشعرية كالسهام التي تخترق قلوب الظالمين، وكالشموع التي تنير دروب المظلومين. في قصائده، كان يصرخ باسم الحرية، وينادي شعبه للنهوض من غياهب الاستكانة، قائلاً لهم: "لن نعيش إلا أعزاءً، ولن نرضى إلا بالكرامة."
سجنٌ لا يُكسر فيه الأمل
حينما ألقى به الطغاة في غياهب السجون، ظنوا أنهم قد أخمدوا نيران ثورته. لكنهم لم يدركوا أن هذا السجن لم يكن سوى محطةٍ لصقل إرادته. حاول الهروب مرةً فكُسرت قدمه، لكن كسر العظام لم يكسر عزيمته. وعندما تمكن من الفرار أخيراً، كان هروبه إعلاناً جديداً للثورة.
معارك في وجه المستعمر والإمام الطاغية
لم يكن هذا الثائر رجلاً يخشى المواجهة. حينما أرسله الإمام ليقاتل الإنجليز في شبوة، كان يعلم أن هذا التكليف ليس إلا مكيدة للتخلص منه. ومع ذلك، قاد معاركه بشجاعة لا مثيل لها، متحدياً قوى الاستعمار والطغيان معاً. وعندما أدرك أن الإمام والإنجليز قد تآمروا عليه، عاد إلى بلاده ليواصل نضاله.
ثورةٌ تُكتب بدماء الأبطال
في إحدى ليالي فبراير الباردة، اجتمع هذا الثائر مع رفاقه ليخططوا لإنهاء عهد الإمام الطاغي. لم يكن الأمر مجرد فكرة عابرة، بل كان قراراً مصيرياً ينبع من إيمانهم بأن الظلم لا يُزال إلا بالقوة. وفي منطقة حزيز جنوبي صنعاء، نصبوا كميناً للإمام الذي كان رمزاً للطغيان. وعندما أطلق الثائر رصاصته الحاسمة، لم يكن يقتل رجلاً فقط، بل كان يقتل حقبةً من الظلم والاستبداد.
شهادةٌ ترويها الجبال
لكن الطغاة لا ينسون من يقف في وجههم. وبعد نجاح الثورة المؤقتة، أُجهضت الأحلام بسقوط صنعاء في يد الإمام الجديد. طاردوه حتى وصل إلى خولان، وهناك استشهد وهو يقاتل بشجاعة لا تُوصف. خانته بعض القبائل التي وعدته بالدعم، لكنه لم يخن مبادئه حتى آخر رمق.
إرثٌ خالد
ترك هذا الثائر وراءه إرثاً عظيماً من القصائد التي تحكي قصة شعبٍ يناضل من أجل حريته. كانت كلماته كالنور الذي يُضيء طريق الأجيال القادمة. وفي كل بيتٍ شعريٍ كتبه، كانت هناك دعوةٌ للتمرد على الظلم، وإيمانٌ بأن الحرية تستحق كل التضحيات.
ختامٌ يليق بعظمة الروح
لقد كان هذا الرجل رمزاً للكرامة والشجاعة. ومن خلال حياته ومماته، علّمنا أن النضال هو الطريق الوحيد نحو تحقيق العدالة والحرية. واليوم، ونحن نستذكر قصائده ونستحضر روحه، ندرك أن المعركة لم تنتهِ بعد، وأن التاريخ يُصنع بأيدي الأحرار.
في قلب جبال ردفان، حيث تصدح الرياح بأغنيات النضال وتعانق القمم أحلام الحرية، وُلدت امرأة لم تكن كغيرها من النساء. امرأة مزجت بين صلابة الجبال ورقة النسيم، بين عنفوان الثائرين وحنان الأمهات. في عام 1928، في وادي شعب الديوان، أشرقت شمسها الأولى، لتكون بداية حكاية لا تعرف الانطفاء.
كبرت في ظل الاحتلال، حيث كانت الأرض تنزف والقلب يئن. طفولة قاسية كالصخر، لكنها صنعت من روحها فولاذًا لا ينكسر. كانت ترى قريتها تُدمر، ورجالها يُقتلون، فاشتعل في صدرها لهيب الثورة قبل أن تعرف معنى الطفولة.
حينما وقفت أمام مرآة الحياة، أدركت أن الأنوثة ليست عائقًا أمام الحرية. خلعت ثوبها النسائي، وارتدت ملابس الرجال. حلقت شعرها، وعلقت البندقية على كتفها، وتزينت بالخنجر الذي كان شاهدًا على كل معركة خاضتها. عندما سألتها أمها إلى أين؟ أجابت بثبات: "سأنضم إلى الثوار... سأحارب الإنجليز".
الطريق إلى السلاح
في عام 1940، حينما كانت فتاة يافعة، بدأت علاقتها الأولى مع السلاح. شاركت خفية في انتفاضة الحمراء، متحدية قوانين القبيلة وتقاليد المجتمع. وعندما اكتشف والدها شجاعتها، لم يقف عائقًا أمامها، بل اشترى لها بندقية من نوع "فرنساوي"، وكأنما كان يُبارك مسيرتها النضالية.
وفي انتفاضة عام 1956، كانت على موعد مع التاريخ. أسقطت طائرة هليكوبتر بريطانية في الحبيلين، لتُصبح اسمًا تتناقله الألسن. اعتُقلت إثر تلك الانتفاضة، لكن روحها الحرة لم تعرف القيود. تمكنت من الهروب من المعتقل لتعود إلى ساحات القتال أكثر قوة وصلابة.
بطلة الثورتين
لم تكن معاركها مقتصرة على الجنوب وحده. عندما اندلعت ثورة 26 سبتمبر 1962 في شمال اليمن، قطعت المسافات سيرًا على الأقدام للوصول إلى جبال المحابشة وحجة وصنعاء. قاتلت بشجاعة ضد الملكيين في معارك صرواح وبني حشيش وبلاد خولان. كانت بندقيتها تُردد أناشيد الحرية، وكانت خطواتها تُرسم خريطة النصر.
وعندما اشتعلت شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963 ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب، كانت في الصفوف الأولى. قاتلت جنبًا إلى جنب مع الشيخ راجح بن غالب لبوزة، واستمرت في النضال لأربع سنوات حتى إعلان الاستقلال في 30 نوفمبر 1967.
المرأة التي أرعبت الاستعمار
كانت تُتقن نصب الكمائن. أرعبت القوات البريطانية حتى رصدوا مكافأة قدرها مائة ألف شلن لمن يدلي بمعلومات عنها. لكنها كانت كالشبح الذي لا يُمسك به أحد. أصيبت في إحدى المعارك وأُسرت، لكن حتى الأسر لم يُطفئ جذوة نضالها. هربت من المعتقل لتعود إلى الجبال، حيث كانت ترعب أعدائها كأنها قدر لا مفر منه.
تكريم الأبطال
اسمها سبقها إلى القاهرة، حيث كرّمها الزعيم جمال عبد الناصر ومنحها رتبة ملازم أول وأهداها بندقية تقديرًا لشجاعتها ودورها البطولي. كما كرّمها الرئيس سالمين والرئيس علي ناصر محمد بمنحها وسام الاستقلال وميدالية حرب التحرير ووسام ثورة 14 أكتوبر.
لم تكن حياتها مجرد معارك وساحات قتال؛ بل كانت قصة إنسانية نادرة. بعد وفاة والديها، كرّست حياتها لرعاية عائلتها، ورفضت الزواج قائلة: "لا أعراس ولا أفراح إلا بعد الاستقلال". كانت أمًا لشقيقاتها وإخوتها، وأمًا لوطن بأسره.
النهاية التي لا تنتهي
في 25 أغسطس 2002، أغمضت عينيها للمرة الأخيرة في منزلها بمدينة الشعب بعدن. رحلت عن الدنيا بجسدها، لكنها بقيت خالدة في ذاكرة الوطن. دفنت في ردفان، لكن روحها بقيت تحلق فوق جبال اليمن كطائر لا يعرف الأسر.
لم تكن مجرد امرأة؛ بل رمزًأ للحرية والنضال، هي قصيدة كتبت بدماء الثوار وأحلام الأجيال القادمة. إنها المرأة التي علّمتنا أن الوطن يستحق كل تضحية، وأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع انتزاعًا.
من هي المناضلة التي أُطلق عليها لقب "بطلة الثورتين" وأسقطت طائرة بريطانية خلال نضالها؟
في ظلال التاريخ، حيث تنبض القلوب بحكايات البطولة، وتُروى القصص عن أولئك الذين حملوا أرواحهم على أكفهم ليضيئوا دروب الحرية للأجيال القادمة، يبرز اسمٌ كالشمس التي لا تغيب، كالنجم الذي يهدي السائرين في الليالي الحالكة. هو فارسٌ من فرسان النور، وشعلةٌ من شعل الثورة، نبتت جذوره في أرضٍ عرفت الظلم والقهر، لكنه أبى إلا أن يكون حراً كنسائم الصباح الأولى.
في قريةٍ هادئةٍ تحتضنها جبال اليمن الشامخة، وُلد هذا البطل عام 1937. كان ميلاده رمزاً لبداية عهدٍ جديد، وكأن الأرض كانت تستعد لاستقبال من سيعيد إليها كرامتها المسلوبة. في طفولته، كان اليتم رفيقه، لكنه لم يكن عائقاً أمام طموحه. كان ذكاؤه المبكر يلمع كالسيف في الظلام، فختم القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ليكون ذلك أول انتصارٍ له على قيود الجهل.
حينما وطأت قدماه صنعاء لأول مرة، كان يحمل في قلبه أحلاماً تتجاوز حدود الأفق. التحق بمدرسة الأيتام، وهناك أظهر تفوقاً لافتاً جعله يقفز ثلاث سنوات دراسية دفعة واحدة. في تلك المدرسة، بدأ يتشكل وعيه الوطني والسياسي، وبدأت بذور الثورة تنمو في أعماقه. وعندما سُئل ذات يوم عن معنى السعادة، أجاب بكلماتٍ خالدة: "السعادة تكون في الحرية". كانت تلك الكلمات بمثابة وعدٍ قطعه على نفسه ليكمل المسيرة نحو تحرير وطنه.
في شبابه، كان شعلةً لا تنطفئ. قاد المظاهرات الطلابية ضد الظلم والاستبداد، وكان صوته يصدح بالحرية في شوارع صنعاء. ولم تكن تلك المظاهرات مجرد صرخاتٍ عابرة، بل كانت شراراتٍ أشعلت نار الثورة في قلوب اليمنيين. ورغم السجون والقيود التي حاولت الإمامة أن تضعها حوله، بقيت روحه عصيةً على الانكسار.
حين التحق بالكلية الحربية، لم يكن هدفه مجرد الحصول على رتبةٍ عسكرية، بل كان يسعى لتسخير العلم والقوة لخدمة قضيةٍ أكبر. هناك، التقى بزملائه الذين شاركوه الحلم ذاته. أسسوا تنظيم الضباط الأحرار، وكان هو العقل المدبر لهذا التنظيم السري. اجتمعوا على هدفٍ واحد: إسقاط نظام الإمامة وبناء وطنٍ يتساوى فيه الجميع تحت راية الحرية والكرامة.
وفي ليلة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، كان الموعد مع التاريخ. بقيادةٍ حكيمةٍ وخطةٍ محكمةٍ وضعها هذا البطل الشاب، انطلقت الثورة كبركانٍ هادر.
كانت داره الصغيرة مركز القيادة، وكانت كلماته الحماسية وقوداً أشعل حماس الثوار. وفي صباح اليوم التالي، أعلن الشعب اليمني قيام الجمهورية وسقوط عرش الإمامة إلى الأبد.
لكن الأبطال الحقيقيين لا يكتفون بالنصر الأول. بعد أيامٍ قليلة من قيام الثورة، قاد حملةً عسكريةً إلى منطقة "حريب" في مأرب لمواجهة الحشود الملكية التي كانت تسعى لإعادة عجلة الزمن إلى الوراء. هناك، وقف هذا البطل كجبلٍ شامخٍ في وجه الطغاة. وفي معركةٍ غير متكافئة، ارتقت روحه الطاهرة إلى السماء في أكتوبر 1962، ليكون شهيدًا للثورة التي وهب لها حياته.
برحيله، فقد اليمن قائداً استثنائياً وشاباً اختصر الزمن بحكمته وشجاعته. كان شعلةً أضاءت درب الحرية لشعبه، وكان اسمه نبراساً لكل مناضلٍ يؤمن بأن الكرامة لا تُوهب بل تُنتزع.
واليوم، ونحن نقف على أطلال الماضي لنسترجع ذكريات الأبطال العظام، يبقى هذا الاسم محفوراً في ذاكرة الوطن. إنه رمزٌ للحرية والتضحية، وأيقونةٌ للثورة التي غيرت مجرى التاريخ اليمني.
في عدن حيث الأرض مبللة بالحكايات، وُلدت طفلةٌ حملت في عينيها بريقًا لم يُطفئه الزمن، ووهجًا لم تُخمده المحن. كانت تلك الطفلة، التي ستكبر لتصبح رمزًا للنضال، نبتةً تنمو بين حجارةٍ صلبة، تُقاوم الريح وتُزهر في وجه العواصف.
نشأت في كنف جدٍّ أغدق عليها من الحنان ما يملأ فراغ اليُتم الذي خلّفه رحيل والديها. لكنها لم تكن طفلةً عادية؛ فقد كانت روحها مشتعلةً بحب الوطن، وعقلها مُتقدًا برغبة التحرير. في زمنٍ كان فيه الاحتلال البريطاني يُثقل كاهل الجنوب، اختارت أن تكون شعلةً تُضيء دروب الحرية.
في منزلها المتواضع في كريتر، حيث كانت الجدران شاهدةً على أسرار الثورة، حوّلت صالونات البرجوازية إلى معاقل للنضال. هناك، اجتمع الفدائيون، وتناسجت الأحلام لطرد المستعمر. كانت تُخبئ المنشورات تحت وسائدها، وتُخفي الأسلحة تحت ظل أحلامها. لم تكن تخشى الجنود المدججين بالسلاح، بل كانت تواجههم بابتسامةٍ تُربكهم، وبإصرارٍ يُذيب جبروتهم.
حين تأسست جمعية المرأة العربية في عدن عام 1961، كانت يدها أولى الأيادي التي امتدت لبناء هذا الصرح النسائي. مع رفيقاتها، أطلقت صرخةً مدويةً في وجه الظلم، وأيقظت النساء من سباتهن الطويل. وحين تأسست الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني، كانت من أوائل النساء اللواتي انخرطن في صفوفها. لم تكتفِ بالكلمات، بل حملت السلاح، ونقلت الذخائر للفدائيين، وساعدت الجرحى، وكانت دائمًا هناك، حيث كان الوطن ينادي.
في إحدى ليالي النضال، حين استشهد أحد رفاق الكفاح، رفض المستشفى تسليم جثمانه. لم تتراجع. جمعت ثلاث نساء، وأدّين دور الأم والزوجة والأخت للشهيد. بكين أمام مشرحة المستشفى حتى استسلم الجنود البريطانيون لمشهد الحزن الزائف. وهكذا أُعيد الجثمان لرفاقه ليُشيَّع بجنازةٍ مهيبة.
كانت ابنة عدن الجريئة تقود سيارتها الفولكس واجن السماوية الزرقاء كأنها تقود دبابةً في معركة. لم تكن تخشى نقاط التفتيش البريطانية التي كثيرًا ما حاولت توقيفها. ذات يومٍ، حين أوقفها جنديٌ مُتهكمًا على انتمائها للجبهة القومية، ردّت عليه بجرأةٍ أربكت كلماته، فأمر باعتقالها. لكن حتى خلف القضبان، كانت روحها حرةً لا تُقيدها سلاسل الاحتلال.
وفي يومٍ من أيام الثورة العظيمة، حين سقطت كريتر في يد الثوار عام 1967، قادت دبابةً بريطانية طافت بها شوارع المدينة. كانت تصرخ في الناس أن يفتحوا محلاتهم ويعودوا إلى حياتهم الطبيعية. كان ذلك اليوم شاهدًا على شجاعتها التي لا تُضاهى.
لكن النضال لم يكن مجرد شعاراتٍ أو بطولاتٍ عابرة. لقد دفعت ثمنًا باهظًا. أنفقت ثروتها بالكامل على دعم الثورة ورفاقها. باعت المنازل التي ورثتها عن والدها لتشتري السلاح وتُطعم الجرحى. وبعد الاستقلال، وجدت نفسها فقيرةً بلا مأوى. لكنها لم تندم يومًا على ما قدمته للوطن.
حين أصابها المرض وأثقل جسدها الهزيل، لم تطلب مساعدة أحد. باعت منزلها لتنفق على علاجها. وفي أيامها الأخيرة، احتضنتها رفيقتها في النضال بمنزلها حتى وافتها المنية في 20 يونيو 1981. كان ذلك اليوم يحمل رمزيةً خاصة؛ ففي مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر عامًا، قادت الدبابة التي أعلنت تحرير كريتر.
بعد وفاتها، أُطلق اسمها على وحدةٍ سكنية في مدينة المنصورة. لكن اسمها الحقيقي ظل محفورًا في قلوب من عرفوها وعاشوا نضالها. هي ليست مجرد اسمٍ على لافتةٍ أو ذكرى عابرة في كتب التاريخ؛ هي رمزٌ للمرأة التي كسرت القيود وأثبتت أن الوطن يستحق كل تضحية.
رحلت تلك المرأة الحديدية التي وصفها رفاقها بأنها "امرأةٌ بآلاف الرجال". رحلت جسدًا لكنها بقيت روحًا تُلهم الأجيال القادمة.
في أزقة مدينة الحديدة، حيث يلتقي البحر بالسماء، ولد عام 1932 رجلٌ لم يكن كغيره من الرجال، بل كان شعلةً من النضال، وقامةً أدبيةً سامقة، وشخصيةً وطنيةً خالدة. إنه ذلك الرجل الذي عاش حياته كأنها قصيدةٌ ملحمية، تتغنى بالحرية والكرامة والعدل. لم يكن مجرد إنسان عادي، بل كان رمزًا للنقاء والصدق والشجاعة؛ إنه واحدٌ من أولئك الذين يُكتب عنهم التاريخ بحروفٍ من ذهب.
منذ طفولته، تأثر بالأحداث التي عصفت بوطنه، فتشكل وعيه المبكر من قصص البطولة التي سمعها عن ثورة القوقر ومقاومة قبائل الزرانيق ضد الحكم الإمامي. تلك القصص لم تكن مجرد حكايات تُروى، بل كانت بذورًا زرعت في قلبه شغفًا لا ينطفئ للحرية والعدالة.
بدأ مسيرته المهنية كضابطٍ في كلية الشرطة، لكنه لم يكن ضابطًا عاديًا. كان يرى في البندقية وسيلةً لتحرير الوطن، وفي الكلمة سلاحًا لا يقل قوةً عن الرصاص. كان يؤمن أن النضال الحقيقي يتطلب تضافر السلاح والفكر، وأن الكلمة قادرة على إحداث التغيير بقدر ما تفعل البندقية.
شارك في تأسيس كتائب الحرس الوطني بمحافظة الحديدة، وكان أحد الضباط الأحرار الذين قادوا عمليات حساسة في ثورة 26 سبتمبر 1962م. لم يكن دوره مقتصرًا على العمليات العسكرية، بل كان أيضًا محرّكًا للأفكار وموجّهًا للوعي الشعبي. بفضل شجاعته وإيمانه بقضيته، أصبح رمزًا للنضال الوطني في مواجهة الطغيان والاستبداد.
بعد نجاح الثورة، تولى العديد من المناصب التي جعلت منه صوتًا معبرًا عن آمال وآلام الشعب اليمني. شغل منصب مدير أمن الحديدة، ثم مدير تحرير صحيفة "الثورة"، وكان عضوًا في مجلس الشورى ومجلس الشعب التأسيسي. لم يكن مجرد سياسيٍّ يشغل المناصب، بل كان إنسانًا يعيش بين الناس، يسمع همومهم وينقلها إلى قاعات البرلمان ومنابر الصحافة.
كان يرى أن الجمهورية ليست مجرد نظام حكم، بل هي حلمٌ يجب أن نحميه ونبنيه معًا. لذلك، رفض المساومات السياسية التي كانت تسعى للنيل من مكتسبات الثورة. كان صوته عاليًا في وجه كل من حاول الالتفاف على أهدافها.
لم يكن نضاله مقتصرًا على السياسة والعمل العسكري؛ بل كان أيضًا شاعرًا فذًا. قصائده كانت مرآةً لروحه الثائرة، وصدىً لمعاناة شعبه. مزج في شعره بين الحزن والأمل، بين الألم والحلم. كانت كلماته تخترق القلوب وتُلهب النفوس، وتحولت قصائده إلى شعاراتٍ يتغنى بها الأحرار.
في إحدى قصائده قال:
باسم شعبي تحلو المنايا وتحلو
السجن دارًا وتستطاب القيودُ
بهذه الكلمات البسيطة والقوية، عبّر عن استعداده للتضحية بكل شيء من أجل وطنه. كانت كلماته دائمًا صادقةً لأنها نابعةٌ من قلبٍ مؤمنٍ بقضيته.
كان يرى أن جوهر الإنسان يكمن في ضميره، وأن الضمير هو الذي يوجه الإنسان نحو الخير أو الشر. قال ذات مرة:
أنا لولاك لم أكن إنسانًا
يا ضميري ولن أعيش مصانًا
كان يؤمن أن الضمير هو حضور الله في الإنسان، وأنه البوصلة التي تقودنا نحو الحق والعدل. هذه الفلسفة جعلته إنسانًا نادرًا في زمنٍ طغت فيه المصالح الشخصية على القيم والمبادئ.
رغم المناصب التي شغلها والنفوذ الذي كان يمكنه أن يتمتع به، ظل متواضعًا قريبًا من الناس. كان يلقب بـ"أبو فوطة"، لأنه كان يفضل ارتداء الملابس البسيطة ويعيش حياةً متواضعة. لم يكن يسعى لجمع المال أو السلطة، بل كان يسعى لتحقيق العدالة والكرامة لشعبه.
قال في وداع نفسه:
الوداع الوداع يا بن الشحاري
فلتواجه حقيقة الأمر واقرأ
ما يضم الكتاب من آثارِ
رحل عن عالمنا في 16 سبتمبر 2000م، لكن ذكراه لم ترحل. ترك خلفه إرثًا غنيًا من النضال والشعر والمواقف الوطنية التي ستظل مصدر إلهامٍ للأجيال القادمة. لقد كان رجلًا عاش حياته من أجل الآخرين، ورحل وضميره نقيٌّ كسماء تهامة.