أحدث الأسئلة: الديمقراطية كلمة مرة
صورة السؤال

حكيم الثورة وقلب تهامة النابض

في أزقة مدينة الحديدة، حيث يلتقي البحر بالسماء، ولد عام 1932 رجلٌ لم يكن كغيره من الرجال، بل كان شعلةً من النضال، وقامةً أدبيةً سامقة، وشخصيةً وطنيةً خالدة. إنه ذلك الرجل الذي عاش حياته كأنها قصيدةٌ ملحمية، تتغنى بالحرية والكرامة والعدل. لم يكن مجرد إنسان عادي، بل كان رمزًا للنقاء والصدق والشجاعة؛ إنه واحدٌ من أولئك الذين يُكتب عنهم التاريخ بحروفٍ من ذهب.

منذ طفولته، تأثر بالأحداث التي عصفت بوطنه، فتشكل وعيه المبكر من قصص البطولة التي سمعها عن ثورة القوقر ومقاومة قبائل الزرانيق ضد الحكم الإمامي. تلك القصص لم تكن مجرد حكايات تُروى، بل كانت بذورًا زرعت في قلبه شغفًا لا ينطفئ للحرية والعدالة.

رجل السلاح والكلمة

بدأ مسيرته المهنية كضابطٍ في كلية الشرطة، لكنه لم يكن ضابطًا عاديًا. كان يرى في البندقية وسيلةً لتحرير الوطن، وفي الكلمة سلاحًا لا يقل قوةً عن الرصاص. كان يؤمن أن النضال الحقيقي يتطلب تضافر السلاح والفكر، وأن الكلمة قادرة على إحداث التغيير بقدر ما تفعل البندقية.

شارك في تأسيس كتائب الحرس الوطني بمحافظة الحديدة، وكان أحد الضباط الأحرار الذين قادوا عمليات حساسة في ثورة 26 سبتمبر 1962م. لم يكن دوره مقتصرًا على العمليات العسكرية، بل كان أيضًا محرّكًا للأفكار وموجّهًا للوعي الشعبي. بفضل شجاعته وإيمانه بقضيته، أصبح رمزًا للنضال الوطني في مواجهة الطغيان والاستبداد.

قلب الجمهورية النابض

بعد نجاح الثورة، تولى العديد من المناصب التي جعلت منه صوتًا معبرًا عن آمال وآلام الشعب اليمني. شغل منصب مدير أمن الحديدة، ثم مدير تحرير صحيفة "الثورة"، وكان عضوًا في مجلس الشورى ومجلس الشعب التأسيسي. لم يكن مجرد سياسيٍّ يشغل المناصب، بل كان إنسانًا يعيش بين الناس، يسمع همومهم وينقلها إلى قاعات البرلمان ومنابر الصحافة.

كان يرى أن الجمهورية ليست مجرد نظام حكم، بل هي حلمٌ يجب أن نحميه ونبنيه معًا. لذلك، رفض المساومات السياسية التي كانت تسعى للنيل من مكتسبات الثورة. كان صوته عاليًا في وجه كل من حاول الالتفاف على أهدافها.

شاعر المقاومة

لم يكن نضاله مقتصرًا على السياسة والعمل العسكري؛ بل كان أيضًا شاعرًا فذًا. قصائده كانت مرآةً لروحه الثائرة، وصدىً لمعاناة شعبه. مزج في شعره بين الحزن والأمل، بين الألم والحلم. كانت كلماته تخترق القلوب وتُلهب النفوس، وتحولت قصائده إلى شعاراتٍ يتغنى بها الأحرار.

في إحدى قصائده قال:  

باسم شعبي تحلو المنايا وتحلو

السجن دارًا وتستطاب القيودُ

بهذه الكلمات البسيطة والقوية، عبّر عن استعداده للتضحية بكل شيء من أجل وطنه. كانت كلماته دائمًا صادقةً لأنها نابعةٌ من قلبٍ مؤمنٍ بقضيته.

فيلسوف الضمير

كان يرى أن جوهر الإنسان يكمن في ضميره، وأن الضمير هو الذي يوجه الإنسان نحو الخير أو الشر. قال ذات مرة:

أنا لولاك لم أكن إنسانًا

يا ضميري ولن أعيش مصانًا

كان يؤمن أن الضمير هو حضور الله في الإنسان، وأنه البوصلة التي تقودنا نحو الحق والعدل. هذه الفلسفة جعلته إنسانًا نادرًا في زمنٍ طغت فيه المصالح الشخصية على القيم والمبادئ.

قائدٌ متواضع

رغم المناصب التي شغلها والنفوذ الذي كان يمكنه أن يتمتع به، ظل متواضعًا قريبًا من الناس. كان يلقب بـ"أبو فوطة"، لأنه كان يفضل ارتداء الملابس البسيطة ويعيش حياةً متواضعة. لم يكن يسعى لجمع المال أو السلطة، بل كان يسعى لتحقيق العدالة والكرامة لشعبه.

إرث خالد

قال في وداع نفسه:

الوداع الوداع يا بن الشحاري

فلتواجه حقيقة الأمر واقرأ

ما يضم الكتاب من آثارِ

رحل عن عالمنا في 16 سبتمبر 2000م، لكن ذكراه لم ترحل. ترك خلفه إرثًا غنيًا من النضال والشعر والمواقف الوطنية التي ستظل مصدر إلهامٍ للأجيال القادمة. لقد كان رجلًا عاش حياته من أجل الآخرين، ورحل وضميره نقيٌّ كسماء تهامة.