في عدن حيث الأرض مبللة بالحكايات، وُلدت طفلةٌ حملت في عينيها بريقًا لم يُطفئه الزمن، ووهجًا لم تُخمده المحن. كانت تلك الطفلة، التي ستكبر لتصبح رمزًا للنضال، نبتةً تنمو بين حجارةٍ صلبة، تُقاوم الريح وتُزهر في وجه العواصف.
نشأت في كنف جدٍّ أغدق عليها من الحنان ما يملأ فراغ اليُتم الذي خلّفه رحيل والديها. لكنها لم تكن طفلةً عادية؛ فقد كانت روحها مشتعلةً بحب الوطن، وعقلها مُتقدًا برغبة التحرير. في زمنٍ كان فيه الاحتلال البريطاني يُثقل كاهل الجنوب، اختارت أن تكون شعلةً تُضيء دروب الحرية.
في منزلها المتواضع في كريتر، حيث كانت الجدران شاهدةً على أسرار الثورة، حوّلت صالونات البرجوازية إلى معاقل للنضال. هناك، اجتمع الفدائيون، وتناسجت الأحلام لطرد المستعمر. كانت تُخبئ المنشورات تحت وسائدها، وتُخفي الأسلحة تحت ظل أحلامها. لم تكن تخشى الجنود المدججين بالسلاح، بل كانت تواجههم بابتسامةٍ تُربكهم، وبإصرارٍ يُذيب جبروتهم.
حين تأسست جمعية المرأة العربية في عدن عام 1961، كانت يدها أولى الأيادي التي امتدت لبناء هذا الصرح النسائي. مع رفيقاتها، أطلقت صرخةً مدويةً في وجه الظلم، وأيقظت النساء من سباتهن الطويل. وحين تأسست الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني، كانت من أوائل النساء اللواتي انخرطن في صفوفها. لم تكتفِ بالكلمات، بل حملت السلاح، ونقلت الذخائر للفدائيين، وساعدت الجرحى، وكانت دائمًا هناك، حيث كان الوطن ينادي.
في إحدى ليالي النضال، حين استشهد أحد رفاق الكفاح، رفض المستشفى تسليم جثمانه. لم تتراجع. جمعت ثلاث نساء، وأدّين دور الأم والزوجة والأخت للشهيد. بكين أمام مشرحة المستشفى حتى استسلم الجنود البريطانيون لمشهد الحزن الزائف. وهكذا أُعيد الجثمان لرفاقه ليُشيَّع بجنازةٍ مهيبة.
كانت ابنة عدن الجريئة تقود سيارتها الفولكس واجن السماوية الزرقاء كأنها تقود دبابةً في معركة. لم تكن تخشى نقاط التفتيش البريطانية التي كثيرًا ما حاولت توقيفها. ذات يومٍ، حين أوقفها جنديٌ مُتهكمًا على انتمائها للجبهة القومية، ردّت عليه بجرأةٍ أربكت كلماته، فأمر باعتقالها. لكن حتى خلف القضبان، كانت روحها حرةً لا تُقيدها سلاسل الاحتلال.
وفي يومٍ من أيام الثورة العظيمة، حين سقطت كريتر في يد الثوار عام 1967، قادت دبابةً بريطانية طافت بها شوارع المدينة. كانت تصرخ في الناس أن يفتحوا محلاتهم ويعودوا إلى حياتهم الطبيعية. كان ذلك اليوم شاهدًا على شجاعتها التي لا تُضاهى.
لكن النضال لم يكن مجرد شعاراتٍ أو بطولاتٍ عابرة. لقد دفعت ثمنًا باهظًا. أنفقت ثروتها بالكامل على دعم الثورة ورفاقها. باعت المنازل التي ورثتها عن والدها لتشتري السلاح وتُطعم الجرحى. وبعد الاستقلال، وجدت نفسها فقيرةً بلا مأوى. لكنها لم تندم يومًا على ما قدمته للوطن.
حين أصابها المرض وأثقل جسدها الهزيل، لم تطلب مساعدة أحد. باعت منزلها لتنفق على علاجها. وفي أيامها الأخيرة، احتضنتها رفيقتها في النضال بمنزلها حتى وافتها المنية في 20 يونيو 1981. كان ذلك اليوم يحمل رمزيةً خاصة؛ ففي مثل هذا اليوم قبل أربعة عشر عامًا، قادت الدبابة التي أعلنت تحرير كريتر.
بعد وفاتها، أُطلق اسمها على وحدةٍ سكنية في مدينة المنصورة. لكن اسمها الحقيقي ظل محفورًا في قلوب من عرفوها وعاشوا نضالها. هي ليست مجرد اسمٍ على لافتةٍ أو ذكرى عابرة في كتب التاريخ؛ هي رمزٌ للمرأة التي كسرت القيود وأثبتت أن الوطن يستحق كل تضحية.
رحلت تلك المرأة الحديدية التي وصفها رفاقها بأنها "امرأةٌ بآلاف الرجال". رحلت جسدًا لكنها بقيت روحًا تُلهم الأجيال القادمة.