في إحدى مدن تهامة الوادعة، في حيس المدينة التي تنبض بجمال الروح وصفاء الوجدان، أبصرت النورَ روحٌ قدر لها أن تشعل شموع الفكر والأدب. وُلد في بيتٍ توارث حب العلم والقرآن جيلًا بعد جيل، وكان من نسل أسرةٍ جذورها تمتد إلى حضرموت، لكن شذاها تفتّح على أرض تهامة.
منذ نعومة أظافره، ارتبط بالكتاب. كانت ذاكرته موسوعة حيّة، ولسانه رطبًا بآيات الذكر الحكيم، إذ أتم حفظ القرآن الكريم على يد والده وعدد من فقهاء منطقته، وكان لصوته في التلاوة خشوعٌ خاص، يجعلك تستشعر كل حرف وكأنما يلامس القلب. ما لبث أن توسّع في علوم اللغة من نحو وصرف وبلاغة، وكان يتلقاها بشغف العاشق المتيم بالكلمات.
انتقل إلى زبيد، حاضرة العلم التهامية، حيث نهل من موارد الشافعية، وتمرّس في أصول النحو والفرائض والمنطق. وفيما بعد، حزم أمره إلى صنعاء، يحمل على كتفيه أحلام العلم، وهناك انكبّ على الدراسة في المدرسة العلمية، وتردد على الجامع الكبير، حيث تلاقى مع أعلام الأدب والفكر. كانت ملامحه وقورة، حديثه مزيج من التواضع والوقار، ولمع نجمه بين زملائه لما امتلكه من فهم عميق وذوق أدبي عالٍ.
كانت حياة هذا الرجل أبعد ما تكون عن الرتابة. فالقدر لم يمهله طويلًا قبل أن يبتليه بفقدان البصر وهو بعد في ثلاثينيات عمره. لكن الغريب أن هذا الابتلاء لم يكن قيدًا على روحه، بل بدا كأنه فتحٌ جديد في مسيرته. ظل قلبه نافذًا، يبصر بالمعرفة ما لا تدركه الأبصار، وراح يغوص في عوالم الكتب، يحفظ ويحلل ويؤلف.
وما لبث أن أصبح نجمًا ساطعًا في سماء الفكر اليمني والعربي، كاتبًا، وناقدًا، وشاعرًا، ومؤرخًا، لا يستريح من الكتابة، ولا تهدأ قريحته. كان من أولئك الذين إذا كتبوا، تسللت الحكم من بين سطورهم دون تكلف، وإذا تحدث، تلمّست في حديثه أثر العارفين.
بلغت مؤلفاته المطبوعة أكثر من عشرين كتابًا، في حين بقيت عشرات المخطوطات تنتظر الطبع والنشر. ما بين سطور تلك الكتب تجد اليمن حاضرًا بكل تفاصيله، من سيرة العلماء والمجاهدين، إلى تاريخ المدن، إلى نقد الشعر العربي، إلى قضايا الفكر الإسلامي. كان يرى الأدب وسيلة لتجديد الفكر، لا مجرد تكرار لما قيل. لم يكن مجرّد ناقل، بل مجدّد، يحفر بأصابعه الناعمة على صخر الجمود، باحثًا عن نبع الحقيقة.
من بين أبرز أعماله، كتاب جمع فيه سير أعلام اليمن في ميادين العلم والجهاد والدعوة، وقد صار مرجعًا لا غنى عنه في كل مكتبة تهتم بالتراث اليمني. كما كتب دراسات نقدية حول الشعر العربي الكلاسيكي والمعاصر، ووجّه اهتمامًا خاصًا إلى الشعراء الذين ارتبطوا بقضايا الأمة، لا سيما أولئك الذين جابهوا الاستبداد والدكتاتورية.
امتلك رؤية فكرية واسعة، فلم يكن كاتبًا منعزلًا عن مجتمعه، بل تفاعل مع قضايا عصره، وناضل بالكلمة ضد الظلم، وكتب عن الحرية كما يكتب المحروم من النور عن الشمس. في إحدى دراساته، تناول سيرة أحد أعمدة النضال اليمني، فكان الوصف مزيجًا من وفاء أدبي وحب ثوري.
عرفته الساحات الثقافية اليمنية والعربية مشاركًا نشطًا في الفعاليات الأدبية، حيث حصد العديد من الجوائز، لكنه لم يكن من أولئك الذين يتغنون بالتكريم، بل كان يقول دومًا: "الكتابة مسؤولية، لا زينة".
لم يكن وحده في ميدان الحرف، بل أسّس وأدار مؤسسات ثقافية وتعليمية في منطقته، وكان بيته قبلةً لطلاب العلم ومحبي الأدب. لا يردّ سائلًا، ولا يخيّب أمل طالب، وكان يعقد جلسات فكرية منتظمة، يتداول فيها مع الحضور شؤون الأمة وشجون التراث.
وكم من ليلة أُضيئت في تهامة بنور كلماته، وكم من طالب استلهم من عزيمته درسًا في الصبر والإبداع. لم يكن يتحدث عن إعاقته، بل عن قدرته. كان قدوة في جعل الضعف منبع قوة، وكان يستشهد كثيرًا بقوله: "من لم يرَ بنور قلبه، فلن يبصر شيئًا ولو كانت عيناه سليمتين".
في مساء حزين من شهر يناير عام 2007، أسلم الروح إثر جلطة دماغية. غاب الجسد، وبقي الأثر. ودُفن في مدينته حيس، التي أنجبته، وربّته، واحتضنته في المهد واللحد. ومنذ ذلك اليوم، صار اسمه يتردد بين المثقفين كما تتردد أسماء العظماء الذين لا يموتون.
ورغم مرور السنوات، لا يزال صوته يسمع بين صفحات كتبه، ولا تزال رؤيته تلهم أجيالًا جديدة من الأدباء والمفكرين. ذلك لأنه لم يكن عابرًا في عالم الأدب، بل كان مؤسسًا، نحت اسمه في صخر الذاكرة الثقافية اليمنية، وغرس فكره في وجدان كل من قرأ له أو سمع عنه.