في قلب الجبال الشاهقة، بين المدرجات الزراعية التي تحكي تاريخاً من العطاء، ووسط السهول الممتدة كأنها بساط أخضر يلامس السماء، وُلد صوتٌ عذبٌ، حمل بين نبراته حكايا الأرض، أهازيج الحقول، وآهات المغتربين. صوتٌ نسج من الحنين أغنيات، ومن الثورة أناشيد، ومن الحب قصائد. إنه صوتٌ لا يشبه إلا نفسه، صوتٌ يلامس القلب كأنما يعانق الروح.
من أرضٍ عُرفت بالكدح والصبر، من ريفٍ تغنّى بأهازيج الزراعة ومواسم الحصاد، خرج هذا الصوت ليكون سفيراً لكل نبضٍ في اليمن. كان طفلاً يرعى الأغنام تحت سماءٍ ملبدة بالغيوم، يحمل نايه المصنوع من النحاس، ويعزف أحلامه على أوتار الطبيعة. لم يكن يدرك حينها أن هذا الناي سيصبح لاحقاً عوده الذي سيحمل ألحان وطن بأكمله.
كبر الفتى بين جبال تعز، حيث الأرض تُزرع بالأمل، وحيث الشمس تشرق على مدرجات خضراء تُعانق السحاب. كانت الطبيعة معلمه الأول، وكانت أغاني الرعاة وأهازيج الحقول هي مدرسته الأولى. هناك تعلم كيف يُنسج اللحن من صوت المطر، وكيف تُصاغ الكلمات من حفيف الأشجار. كان يسمع صوت الأرض في كل شيء: في خرير السواقي، في هدير السيول، وفي غناء الطيور عند الفجر.
حين انتقل إلى المدينة، حمل معه روح الريف وعذوبة الطبيعة. في عدن، المدينة التي كانت تحتضن الفن والفنانين، بدأ رحلته مع العود والغناء. كانت عدن بالنسبة له نافذةً نحو العالم، حيث التقى بفنانين وشعراء، وحيث وجد نفسه محاطاً بأجواء الإبداع. هناك، بدأ ينسج أولى ألحانه ويغني أولى أغنياته. كانت أغنيته الأولى رسالة حب وحنين: "بالله عليك وامسافر"، كلماتٌ حملت شوق المغترب إلى وطنه وأهله.
لم تكن أغانيه مجرد كلماتٍ وألحان؛ كانت قصائدَ تُغنّى بحبٍ وشجن. كان يغني للأرض وكأنه يعانقها، يغني للمطر وكأنه يدعو السماء للكرم، يغني للإنسان وكأنه يواسيه في غربته وألمه. في كل أغنيةٍ له، كان هناك حكاية تُروى؛ حكاية الوطن الذي لا يغيب عن القلب مهما ابتعدت المسافات.
لكن صوته لم يكن فقط صوت الحب والحنين؛ بل كان أيضاً صوت الثورة والحرية. حين هبّت رياح التغيير في اليمن، كان صوته هو النشيد الذي جمع القلوب وألهب المشاعر. غنى للثورة كأنما يغني للحياة نفسها: "رددي أيتها الدنيا نشيدي"، كلماتٌ أصبحت رمزاً لوطنٍ يرفض الانكسار. كان صوته هو النشيد الوطني الذي يردده كل يمني في الصباحات المدرسية وفي المناسبات الوطنية.
لم تكن حياته سهلة؛ فقد واجه الكثير من الصعاب والعوائق. لكنه ظل شامخاً كجبال وطنه، ثابتاً كالأرض التي أحبها وغنى لها. لم يتزلف لحاكمٍ أو حزبٍ، ولم يجعل فنه أداةً للتكسب أو التملق. كان فنه رسالةً نقيةً تحمل الحب والسلام والأمل.
اليوم، وبعد سنواتٍ من العطاء، يعيش هذا الفنان الكبير بعيداً عن الأضواء، لكنه لا يزال في قلوب اليمنيين جميعاً. صوته لا يغيب عنهم؛ فهو حاضرٌ في كل صباحٍ مدرسي، في كل احتفالٍ وطني، وفي كل لحظةٍ يتذكر فيها اليمنيون وطنهم وأرضهم.
إنه عندليب اليمن الذي غنى للأرض والإنسان، للثورة والحب، للمطر والحقول. إنه الصوت الذي جمع بين الحنين والأمل، بين الشجن والفرح. إنه الفنان الذي جعل من الفن رسالةً ساميةً تحمل بين نبراتها حب الوطن وكرامة الإنسان.