هو ابن الغربة، ورفيق التمزّق، سليل المهاجرين الذين حملوا همومهم على أكتافهم، وتركوا أوطانهم خلفهم بحثًا عن أفقٍ جديد. وُلِدَ في أرضٍ ليست أرضه، وبين قومٍ لم يكن منهم، لكنه حمل في قلبه جذورًا ضاربةً في أعماق اليمن، حيث كان والده فقيهًا مهاجرًا، وأمه حبشيةً احتضنته بحنانها. هناك، في أديس أبابا، عام 1939، أطلّ على العالم طفلٌ كُتِبَ عليه أن يكون شاهدًا على صراع الهويات، وأن يحمل أوجاع الغربة على كتفيه طوال حياته القصيرة.
طفولةٌ بين لغتين وهويةٌ ممزقة
نشأ بين لغتين، لغة أمه الحبشية التي كانت لحنًا دافئًا في أذنيه، ولغة أبيه العربية التي حملت عبق القرآن والحكايات اليمنية. كان يمشي بين عالمين؛ أحدهما منفتحٌ بألوانه الإثيوبية، والآخر محافظٌ بعبقه اليمني. تلك الثنائية كانت الشرارة التي أشعلت في داخله تساؤلاتٍ عن الهوية والانتماء، فكان طفلًا يتأمل العالم بعينين تحملان شجنًا لا يليق بعمره.
عاد إلى اليمن عام 1946، وهناك بدأ يتلمس أرض وطنه لأول مرة. لكن الغربة كانت قد حفرت عميقًا في روحه، فجعلت من كل خطوةٍ على تراب اليمن رحلةً إلى الداخل، حيث كان يبحث عن ذاته المبعثرة بين الحبشة وصنعاء.
رحلة العلم والثورة
في منتصف الخمسينيات، حمل حقائبه إلى مصر حيث الأزهر الشريف. هناك، لم يكن طالبًا عاديًا؛ بل كان مشاغبًا فكريًا، يبحث عن الحقيقة بين الكتب والندوات. أسّس مع رفاقه رابطة للطلبة اليمنيين، وكان صوته صوت التمرد على الجمود. لكن مصر الناصرية لم تحتمل انتماءه اليساري، فكان الطرد مصيره عام 1959.
لم ينكسر. حمل شغفه إلى موسكو، حيث معهد مكسيم غوركي للأدب. هناك، تعرّف على الأدب الروسي العظيم، واستلهم من عظماء الكلمة روح التحدي والإبداع. لكنه لم يُكمل دراسته؛ إذ عاد إلى وطنه بعد ثورة 1962، ليجد نفسه في قلب التحولات الكبرى.
أديبٌ يرسم وجع الغربة
لم تكن الكتابة بالنسبة له ترفًا أو هواية؛ بل كانت صرخةً في وجه الظلم والتهميش. كتب عن المغتربين الذين يموتون غرباء، وعن المولدين الذين يعيشون على هامش الهويات. كانت قصصه مرآةً لوجعه الشخصي، لكنه جعل منها صوتًا لكل من عاشوا غربتهم في الداخل والخارج.
في روايته "يموتون غرباء"، جسّد مأساة المهاجرين اليمنيين في الحبشة. عبر شخصية "عبده سعيد"، حكى عن الوحدة التي تلتهم الأرواح، وعن الحنين الذي يقتل ببطء. أما صنعاء في روايته "صنعاء مدينة مفتوحة"، فكانت مسرحًا لصراعات السياسة والجوع والحب.
الاحتراق الأخير
حياته كانت قصيرة لكنها مشتعلة كنجمةٍ في سماءٍ مظلمة. في عام 1973، وبينما كان يحلّق في طائرةٍ تحمل أحلام الدبلوماسيين والمثقفين، احترقت السماء واختفى جسده بين شبوة وحضرموت. لم يجدوا قبرًا له ليضعوا عليه زهرةً؛ لكن كلماته بقيت شاهدةً على رجلٍ عاش ومات غريبًا.