في حضرموت، حيث تتشابك الأودية كخيوط الذهب على بساط الطبيعة، وحيث تهمس الرياح بألحانها القديمة بين جبال المكلا، ولد نجمٌ موسيقيٌ أضاء سماء الفن العربي، فكان عنوانًا للإبداع والتجديد. وُلد في قرية "قرن ماجد" بوادي دوعن، حيث التقت جذور حضرموت العريقة بدماء هندية نبضت بالفن. من أم حضرمية وأب هندي من البنجاب، استقدمه السلطان القعيطي ليكون في خدمته، نشأ ذلك الطفل الذي سيصبح فيما بعد رمزًا للغناء الحضرمي وأيقونة للأغنية العربية.
في بيتٍ يعشق الموسيقى، كان صدى الألحان يتردد بين الجدران كأنها تراتيل صلاة. والده، الذي كان يملك مكتبة من الأسطوانات الهندية والعربية، زرع في قلبه بذور الحب للموسيقى. أما إخوته، فقد كانوا عازفين بارعين على آلات متنوعة، فكان البيت أشبه بفرقة موسيقية مصغرة. وسط هذا العالم الغني بالأصوات والإيقاعات، بدأ الصبي الصغير ينسج أحلامه على أوتار العود.
حينما بلغ الخامسة عشرة من عمره، انضم إلى الفرقة الموسيقية السلطانية في المكلا. كان ذلك الفتى الصغير يتقاضى ثلاثة ريالات شهريًا، لكنها كانت أكثر من مجرد أجر؛ كانت تذكرة عبور إلى عالم الفن الكبير. تعلم العزف على آلات موسيقية متعددة تحت إشراف ضابط هندي يدعى عبداللطيف، وكان العود هو رفيق دربه الذي أبدع عليه أعذب الألحان.
لم يكن مجرد عازف أو مغنٍ، بل كان قائدًا موسيقيًا بالفطرة. حينما تولى قيادة الفرقة السلطانية لاحقًا، أدخل الموسيقى العربية لأول مرة إلى تلك الفرقة التي كانت تعزف الألحان الهندية والغربية فقط. كانت هذه الخطوة بمثابة إعلان ثورة فنية في حضرموت، حيث بدأ المزج بين التراث المحلي والنغمات الوافدة.
لكن رحلته لم تتوقف عند حدود حضرموت. حمل عوده وسافر إلى كينيا والحبشة والصومال وجيبوتي والكويت والسعودية. في كل محطة من محطاته، كان يترك بصمةً لا تُمحى، ويزرع بذور فنه التي أزهرت في قلوب محبيه. في الكويت، سجل العديد من الأسطوانات التي حملت ألحانه إلى آفاق جديدة. وفي السعودية، تأثر بالألوان الحجازية والنجدية، ونسج منها ألحانًا استثنائية.
كان للأغنية الحضرمية معه موعدٌ مع التجديد. أخذ الموشحات الحضرمية القديمة وصاغها في قوالب موسيقية جديدة راقصة. جعلها تنبض بالحياة وتصل إلى قلوب الجماهير ليس فقط في اليمن، بل في الخليج وشرق أفريقيا. لم يكن مجرد ناقلٍ للتراث، بل كان مُجدِّدًا ومُبتكرًا. حتى الأناشيد الدينية التي كانت تُغنى بأسلوب تقليدي، أدخل عليها الآلات الموسيقية وأضاف لها لمساتٍ عصرية جعلتها أقرب إلى قلوب الناس.
لقد كان يؤمن بأن الكلمات الرديئة لا تصنع فنًا عظيمًا. لذلك اختار بعناية كلمات أغانيه من قصائد لشعراء عرب كبار مثل عمر بن أبي ربيعة وأحمد شوقي، ومن شعراء حضرموت واليمن مثل حسين المحضار وعبدالرحمن باعمر. كان صوته العذب وألحانه الساحرة يجعلان الكلمات تتجلى كأنها لوحة فنية تنبض بالحياة.
في عدن، تلك المدينة التي كانت ميناءً مفتوحًا على العالم وثقافاته المتنوعة، وجد بيئة خصبة لنشر فنه. سجل عشرات الأسطوانات التي حملت ألحانه إلى كل زاوية من زوايا العالم العربي. كانت عدن بمثابة المنصة التي انطلق منها ليصبح أيقونةً فنية لا تُنسى.
لم يكن مجرد مغنٍ أو ملحنٍ؛ كان مدرسةً فنية قائمة بذاتها. تعلم النوتة الموسيقية بنفسه وأتقنها في زمنٍ كان فيه معظم الفنانين يعتمدون على السماع فقط. كان أول من كتب الألحان بالنوتة الموسيقية في حضرموت واليمن، مما جعله رائدًا في هذا المجال.
حينما أسدل الستار على حياته في ديسمبر 1963، كان قد ترك إرثًا فنيًا خالدًا. دفن في المكلا، لكنه بقي حيًا في قلوب محبيه وفي كل نغمة من نغمات أغانيه.
إنه الفنان الذي حمل الأغنية الحضرمية على جناحي الإبداع وطوّف بها العالم. رجلٌ جمع بين التراث والتجديد، وبين الشرق والغرب، وبين القديم والحديث. إنه أسطورةٌ موسيقية لا تزال ألحانه تتردد كأنها همس الرياح بين جبال حضرموت.