أحدث الأسئلة: الديمقراطية كلمة مرة
صورة السؤال

أعيُن العمَى تُبصِرُ النُّجوم

النهار يمضي على جبينه، والليل يراقص في عينيه ظلال القصائد. ليس كغيره من الشعراء، فهو الذي رأى من زاوية البصر المعتمة عوالم مضيئة، وصاغها بحروف من وهج وحلم لا ينضب.

هو نغم اليمن المشتعل، شاعر الأرض والهمّ، عاش في كهوف الفقد، لكنه شيد قصورًا من الخيال والجمال.

هو الذي كان يمشي أعمى بين المبصرين، لكنه قاد مدائن الشعر إلى مرابع النور.

في عام 1929، على أطراف قرية صغيرة اسمها البرَدّون، التي صارت بفضل اسمه أعظم من مجرد موقع على الخارطة، وُلد طفل كتبه القدر ليكون مفكرًا في هيئة شاعر، أراد له المرض أن يخفت نور عينيه وهو لم يتعد الخامسة من عمره، لكن روحه أبت أن تكون حبيسة الظلام.

هناك، في ذمار وصنعاء، بدأ رحلته مع الكلمات والمعاني، هجَرَ البصر، لكنه وجد الضياء في الحرف الأصيل، كانت المدرسة الشمسية محطته الأولى في البحث عن المعرفة، وهناك امتزجت تعاليم الدين بالبلاغة، فأبدع وأتقن حتى استحق درجة التفوق اللغوي. لكنه ما لبث أن انتقل من أروقة المدارس إلى سجون الطغاة؛ إذ كانت مواقفه السياسية وشعره المقاوم نبضًا يجاهر برفض الظلم وقمع الحريات

ثائرٌ بقلب شاعر

منذ ديوانه الأول "من أرض بلقيس"، وضع بصمته الفريدة في عالم الأدب. ورغم أن قصائده لا تخلو من فقد وحزن، فإنها كانت دائمًا تحمل الأمل ونكهة التحدي. عبر دواوينه مثل "في طريق الفجر" و"مدينة الغد"، يظهر الحس الإنساني العميق الذي ينضح بمعاناة شعب يسكن قلبه وعقله. أسلوبه اللغوي كان حداثيًا ولكنه عميق الجذور في الأصالة. تلك التناقضات الخلابة بين التقاليد الراسخة والحداثة الطموحة جعلت كلماته تأخذ قارئها إلى فضاءات ساحرة، حيث المرايا الليلية تعكس الوجوه الدخانية كما جاء في "وجوه دخانية في مرايا الليل"، وحيث الأرض تُعادُ ترجمتها بعواطف متجددة كما في "ترجمة رملية لأعراس الغبار". لكن خصوصيته لم تتوقف عند الشعر فقط؛ فقد أطل على القضايا التاريخية والأدبية بروح الباحث والمفكر. وُجدت في كتبه مثل "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه" و"الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية" صورة واضحة لمفكر يدرك أبعاد الهوية والانتماء والتغيير

شاعرٌ عنيد ومثقفٌ بما يكفي ليحارب الجميع

لم يكن شاعر قبيلة ولا صوت حاكم، بل كان صوت الناس البسطاء الذين عركتهم الحياة. جرأته أوصلته إلى الزنازين مرارًا، لكن صدى كلماته ظل يتردد فوق أسوار السجون؛ إذ قاوم الحكم الطاغي، ونادى بحرية الشعب. هذه الجرأة منحته لقب "معري العصر"، لكونه يقف بين ظلم الحاكمين وعُقم المفاهيم البالية بصوت قوي وشعر مترع بالسخرية والحكمة.

لقد كتب عن كل شيء؛ الثورة والحب والطبيعة والوطن والألم. كان يرى في الكلمة شعلة يمكن أن تبني مستقبلًا أو تنير درب المكلومين. ومن هنا نجد في أشهر دواوينه مثل "رجعة الحكيم بن زائد" و"كائنات الشوق الآخر" مزيجًا من الرمزية والتعبير الصادق.

النهاية التي تغني عن الغياب

لم يكن يجيد سوى الكتابة للشعب واليمن، ورغم كل الجوائز التي حصدها مثل جائزة شوقي للشعر أو وسام سلطان العويس الثقافي، فقد اختار أن يعيش بين الناس بسيطًا حتى آخر حياته التي ودّعها في عام 1999. ومع أنه رحل قبل الانفتاح الرقمي الكبير الذي كاد يتيح لصوته الوصول بشكل أوسع للعالم العربي، فإن هذا لم يوقف شِعره عن الانتشار كالنار في هشيم الروح اليمنية والعربية.