أحدث الأسئلة: الديمقراطية كلمة مرة
صورة السؤال

نجم ولد من دان لحج

في ربيع الحوطة المسكونة بالحكايات، وُلد في عام 1934  ذاك الفتى الذي نسجت نسمات الفجر على خيوط صوته أساطير الزمان. كان ميلاده من نسل الطرب وأوتار الشجن، ابن لشيخ الطرب، صاحب الصوت الأسطوري الذي ظل يتردد صدى ألحانه في أروقة كوكبان وروابي اليمن. شيخ يقال عنه إنه حفظ بين ضلوعه ثلاثة آلاف بيت شعر، فكان بحراً من الثقافة والغناء، مطرباً وأديباً وزاهداً في كل شيء سوى الفن.
ذاك الطفل الذي وجد نفسه يتنقل بين الحوطة والشيخ عثمان، بين الحنين إلى لحج وحكايات والدته في منزل زوجها الجديد. هناك حيث التقى بأصدقاء الغناء، وقف الطفل الذي يُحاكى عنه اليوم كأيقونة لا تنطفئ، خلف الإيقاع غارقاً في دهشة الأصوات، مقلداً الكبار، ثم متألماً عندما تبين له أن تلك المحاولات كانت مجرد بدايات.
كان يرى في كل مقام صوتياً عالمًا بلا حدود، وفي كل ضرب على الدف أوتاراً تحكي قصائد خالدة تنتمي إليه وحده. فنشأ متسلحاً بما ورثه من أبيه وما حفظه من رياض الطرب في أروقة لحج.
كانت المخادر والأعراس مقاعد دراسته الأولى، حيث تعلم أصول الموشحات اليمنية وأصبح مردداً للكلمات خلف المطربين: عوض عبدالله المسلمي، إسماعيل سعيد هادي، وأحمد عوض الجراش. من بين هؤلاء أعاد بناء نفسه كفنان صغير في البداية، لكنه حمل بين القلب والذاكرة بذور الخلود الفني. كانت لحج مرآة روحه وصوت أصالته. أحب
"الدان" كما لو كان وطنه الثاني، فعبّر عن نفسه بألحان طرزت على مقام حجاز اليمن ونسيج الإيقاع اللحجي الذي ترعرع عليه. وهكذا ظهرت أغنيته الأولى التي هزّت بها قلوب المستمعين "محلا السمر جنبك"، قصيدة خالدة تجرّع من خلالها كأس النجاح لأول مرة، مانحاً الجمهور لحناً يمنياً عريقاً ومضاءً بنور الأصالة. ثم كانت "ما با بديل"، تلك الأغنية التي حملت الوعد والقسَم بأن هذا الفنان ليس كبقية أبناء زمانه. لحنها كان ابناً صادقاً للغناء اللحجي، إذ دمج فيها إيقاعات الشرح البدوي والسلطاني بتطوير حدسي يخصه وحده. صاغ من كلماتها مفردات الحب والخيبة المستوحاة من قاموس الغناء اليمني القديم، لتغدو أيقونة مشبعة بروح الأصالة وروح التجديد في آنٍ معاً. وبينما تأثر بالمطرب الكبير فضل محمد اللحجي وذاعت شهرته بأغاني مثل "سرى الليل يا خلان" و"يوم الهنا والمسرة"، فقد صاغ طريقه الخاص ومزج الألحان بمزيج فريد يحمل بصمة لا تخطئها الأذن.

ما بين مقام الراست والحجاز والسوزناك، ارتفعت أعمدة موسيقاه، معلنة ولادة مدرسة جديدة من التعبير اللوني الذي جمع بين التراث والابتكار. كان يبحث باستمرار عن بصمة جديدة، فالتفت إلى الشعراء العظام ليزينوا صوره الغنائية، تلك الصور التي أصبح معها كل حرف يعادل مقاماً وكل نغمة تشبه لوحة ملونة. لم يكن يغني فقط، كان يحيا في كل كلمة ولحن بصمت وقوة وشموخ الفنان الذي يقدس تراثه ويعيد تشكيله بانحناءة احترام وإبداع جديد.

أغنياته لم تكن فقط موسيقى تتردد في الهواء؛ كانت قصائد مشبعة بالشجن واليمن، تعكس نبض وجعه وحبوره. كانت "محلا السمر جنبك" رغم رقتها شجرة طرب مورقة بما ميز غناء الحوطة. وكانت "ما با بديل" إثباتًا على روح الجنوب الذي سكن أوتاره وصدى لحج التي حملها معه أينما ذهب. مثل زرياب عصر جديد انطلق عبر أزمنة وأماكن متباعدة، ملوناً سماوات الفن بكل أطياف الروح اليمنية.

ذلك هو الفنان الذي تحول إلى رمز للأصالة والحب وإحياء التراث.